نحن سادة جيناتنا

الموقف العلمي من التطور البيولوجي يمر بمراحل متباينة منذ طرح دارون نظريته عام 1859 بدأت بترحاب الأوساط العلمية يطرحه ثم قبول الاهتمام به في المرحلة 1880 - 1930 ، ثم عودة الاهتمام في ضوء الربط بين التطور وبين قوانين مندل في الوراثة، وهو ما يعرف بالداروينية / التركيبية الحديثة New Synthesis . ثم دخل التطور البيولوجي - بل وعلم البيولوجيا كله - في أعقاب إعلان واطسون وكريك اكتشافهما لبنية جزيء الدنا DNA وطريقة أدائه لوظائفه عام 1953 في ثورة جديدة أعادت تشكيل الكثير من مفاهيمه وآلياته. أعقبت ثورة الدنا ثورة أخرى لا تقل عنها جذرية، وهي ما أصبحنا نطلق عليها «البيولوجيا الحديثة New Biology» قياساً على ثورة «الفيزياء الحديثة» . ولم لا؟ فقد نشأت علوم جديدة خلال ربع القرن الماضي أظهرت أن آليات الدنا والرنا ليست إلا آليات متوسطة تعلوها آليات أخرى كثيرة أضحت العلوم الوليدة بالتعريف بها وبكشف أسرارها، كما ثبت أن لهذه العلوم الوليدة مقدرة تفسيرية كبيرة للغاية لكثير من ألغاز الحياة، خاصة ما لم يكن قد تم تفسيره من معارضات نظرية التطور البيولوجي. أثبتت العلوم البيولوجية الحديثة بما لا يدع مجالاً للشك «أننا سادة جيناتنا» ونعني بذلك أن سلوك الجينات ليس حتمياً لكنه يخضع للعديد من العوامل البيئية بل وأيضاً لعوامل نفسية وإرادية وتكنولوجية بشرية. لذلك جاءت بنية هذا الكتاب الشائق من ثلاثية البيولوجيا الحديثة في ثلاثة أجزاء، هي: الجزء الأول: الثورة في فوق الجينومية Epigenetic Revolution ويختص بعلوم التحكم في نشاط الجينات. الجزء الثاني: علم الأحياء التشكيلي التطوري Devo - Evo ويختص بعلوم تشكيل الجين ودوره في التطور البيولوجي. الجزء الثالث: تعديل كريسبر الجيني CRISPR ويتناول آلية كريسبر القادرة على تعديل الجينات وإحداث التطور في الكائنات وكذلك استغلالها كأفضل تقنيات الهندسة الوراثية. إذا كان هذا الكتاب من ثلاثية البيولوجيا الحديثة يدور كله حول الجينات وكيفية التحكم فيها ودورها في حياة الإنسان، فإن هذا يتناول الآليات المادية للحياة ولا يتعارض مع مفهومنا الديني بأن ري هو «المحيي»، ذلك أن ري قد شاء أن ينشئ الوجود وبدوره بالآليات الفيزيوكيميائية ونتناول في هذا الكتاب بعضاً مما يتعلق بالحياة من جوانب غيبية. "