جدل اللغة والثقافة

لا شك أن الطيب صالح يُمثّلُ علامةً فارقةً في الأدب السوداني والعربي, حيث استطاع عبر أعماله الروائية أن يخلق عالماً سردياً متميزاً, يجمع بين العمق الفني والرؤية النقدية. وعلى الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت إبداعاته, خاصة روايته الشهيرة موسم الهجرة إلى الشمال, فإن الجانب المتعلق بالهوية السودانية وعلاقتها باللغة والثقافة بقي بدرجة ما خارج دائرة الضوء النقدي. جاءت هذه الدراسة, التي كانت في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا تحت إشراف الدكتورة محاسن الفحل, وبمشاركة نخبة من الأساتذة المتخصصين، لسد هذه الثغرة. فهي تنطلق من سؤال مركزي: كيف استطاع الطيب صالح، عبر لغته السردية، أن يصوغ هوية سودانية متميزة في ظل تنوع الثقافات والأعراق؟ إن الهوية السودانية ظلت إشكالية قائمة منذ الاستقلال، تطفو على السطح كلما تعرض البلد لأزمات سياسية أو اجتماعية. والسودان، بتركيبته المتعددة ثقافياً ودينياً، ظل يعاني من هيمنة رواية أحادية تختزله في إطار العروبة والإسلام، مما أفرز أسئلة وجودية مثل: من نحن؟ وما اللغة التي تعبّر عنا؟ في هذا السياق، تختار الدراسة أعمال الطيب صالح نموذجاً للتحليل، نظراً لدور الأدب السردي في تشكيل الوعي الجمعي. فمن خلال التخييل الروائي، يصوغ الكاتب هويةً تتجاوز الخطاب الرسمي، معتمداً على لغةٍ تستمد مرجعيتها من الواقع السوداني بكل تناقضاته. وهكذا يصبح النص الأدبي وسيطاً بين الذات والآخر، بين الموروث الثقافي والواقع المتغير. تسعى هذه الدراسة، إذن، إلى كشف الآليات التي وظفها الطيب صالح في نصوصه لبناء هوية سودانية جامعة، تستوعب التنوع دون أن تفقد خصوصيتها. وهي بذلك لا تقدم قراءة نقدية فحسب، بل تحفر في الأسس الثقافية واللغوية التي شكلت الوعي